مع ولادة التاريخ الهجري، وقف النبي صلى الله عليه وسلم على أطراف مكة، ينظر إلى موطنه الذي أقل خطواته الأولى، الأرض التي رسمت بين شعابها معالم دعوته، ومهبط رسالته، والغار الذي كان يأوي إليه ليتفكر في آلاء المنان بعيدًا عن عبدة الأوثان، ينظر بنظرات الحسرة إلى الأرض التي ارتكزت الكعبة المشرفة قلبًا لها، التي يفيء إلى ظلها ليلتصق جبينه دونها متصلا بالله تعالى متجاهلا السباب والأذى من قومه، ثلاث عشرة سنة من الدعوة المكية يطويها بقلب متفطر ويقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"
تطوى السنوات ليأتي العام الثامن من الهجرة ويحبس التاريخ أنفاسه في مشهد يجلي من ضروب النصر أسماها ومن معاني الفرحة أجلها وأنداها، بعد أن أخرج منها صلى الله عليه وسلم مطاردًا متخفيًا يخشى القتل، يعود بتأييد العزيز العظيم، وفتح الحكيم الكريم، لتقر عيناه بموطنه وأحب أرض إلى الله، ويهنأ بنعمة الله التي لم تأتِ فرادى، بل صاحبها النصر والفتح والأمن، وضم مكة كلها إلى الدولة الإسلامية، ليدخل إلى المسجد الحرام في موكب عظيم مستشعرًا فضل الله، خاشعًا منحنيًا على راحلته، معلنًا شكره لله وافتقاره إليه، ابتعد صلى الله عليه وسلم عن البيت العتيق لسنوات ثم دخله مكرّمًا يرفل في النعماء، وقد تبدلت سنين الصبر إلى أنعم مشهودة ومكارم محمودة.
وها نحن اليوم زمرة من أمته، بقلوب تقفو خطاه، وأرواح تهتدي بهديه، تعصف بنا الدنيا وتموج بنا الفتن، تضيق بنا كل الأراضي لنأتي إلى الكعبة المشرفة فتتسع أرواحنا بالزحام حولها، وفي السعي بين الصفا والمروة تطمئن، وتروى بماء زمزم، تضطرب قلوبنا في الدروب لتهدأ خلف المقام، وتتفطر أفئدتنا لأمنية فتجاب في دعوة عند الحجر الأسود، لم تهدأ حركة الطواف لا ليلًا ولا نهارًا ولا صيفًا ولا شتاء، يعتكف المئات داخل أروقة المسجد، وآلاف المشاهد تأسر الفؤاد لركعٍ أو ساجد أو داع، وقد أمنت أرواحنا وضمنت الجوار، نمر دون المسجد الحرام في اليوم عدة مرّات ولا يفصلنا من الولوج إليه إلا مشيئة الله ثم رغبتنا في ذلك، حتى شاء الله أن يبتلينا بالبعد عنه فغزا الوباء العالم، وأغلقت أبواب المسجد الحرام على إثره لتدابيرٍ وقائيّة، سبعة أشهر لكنّها في ميزان المشتاقين أعوامٌ من الحرمان، يترقّبون على جمرِ الانتظار، ويتحيّنون البشائر والأخبار، هم أولاء الذين جاوروا مكة أو من استطاعوا أن يأتوا إليها ويسرت لهم الأسباب، فكيف بمن تعسّر السبيل بهم وحالت الظروف دونهم فلم يروا الكعبة قط ..
"وما صبابةُ مشتاقٍ على أملٍ.. من اللقاءِ كمشتاقٍ بلا أملِ"
على أملٍ مرّت هذه الأشهر لتشعل الشوق في قلوبنا، لتنهض العزم في أرواحنا، إذ استشعرنا حرارة الفقد وازدادت رغبة الوصال، سبعة أشهر ما قبّل الحجر الأسود أحد، ولا اكتظ المطاف بالعمّار، ولا انتعشت أروقة الحرم بركض الأطفال، ولا رددت أركانه تلاوات الحفّاظِ في الحلقات، سبعة أشهر وأرض الحرم الباردة ما لامستها أقدام الساعين الدافئة، وأدمع الذاكرين التائقة، إلا من ثلة حجاج اختصهم الله برحمته في مشهد مهيب.
على أملٍ اصطفّ ركب العمّار الأوّل بالبُشرى مع مطلع فجرٍ يشبه يوم العيد في بهائه وجلاله ولسان حالهم:
"قد يهون العمر إلا ساعةً..وتضيقُ الأرضُ إلا موضعا"
أبواب المسجد الحرام وحمائمُه ومآذنه وأرضه لو نطقت لرحّبت بضيوف الرحمن، والكون كله يشهد ملامح الإياب والبِشر في وجوههم، في فرحة غامرة تأخذ بأصحابها في عالمٍ من نُور وحبور، وشكر لربٍّ كريمٍ غفور
نعودُ خاشعين في تذلل لله وافتقارٍ لفضله ورحمته، يملؤنا التعظيم لجلاله وآلائه
لينعم علينا باستشعارٍ أكبرٍ للنعمة وتذكّرٍ للفضل والمنّة، فالحمدلله ما سار لبيته الملبّون
والحمدلله ما طاف حول كعبته الطائفون، سهّل الله للمشتاقِ سبيله، وتقبّل من المعتمرِ سعيه، وأجزل الأجر والثواب لكل من سخره الله لخدمة بيته، وأدام على المطافِ أصوات الداعين وخطى الشاكرين، وأوزعنا شكر نعمه واستذكارها بما يرضى به عنَّا، وأدام مكّة معلمًا للأمنِ والسكينة، وموطنًا للإيمانِ والطمأنينة.