"أخيرًا وصلتُ إليها، هي مطلبي الأول، وهدفي النهائي من كل رحلتي المضنية، وتخطيطي منذ سنين، رأيتها كتابوت ضخم تغطيه ظلالٌ قاتمة، لكن كان هنالك من الخيال سرابٌ يعطيها فتنة مميزة، وسحرًا خاصًا" هذا ما قاله المستشرق بيرتون واصفًا ما رأت عيناه، مستشعرًا عظمـة المشهد المُهيب، متنكرًا بهيئة حاجٍ؛ بُغية الاستكشاف؛ وأخذِ عينة من الحجر الأسود الذي ظنوا أنه قطعة من البازلت جرفتها السيول؛ وألقـت بها في مكة، ولكن تبين لهم عكس ما ظنوا، وثبت لهـم أنه حجرٌ من السماء، لطالما كـان محط نظر العالم، ومصدر فضولٍ بالنسبة لهم، أما بالنسبة للمسلمين فكـان إيمانًا بأنه حجرٌ من الجنَّة، وشرفٌ عظيمٌ ميزنا الله به.

حجرٌ مضيء لكن الله عز وجل طمس نوره لحكمةٍ إلهية، وليحرم الكفرة من لذة رؤية نعيمٍ من الجنة، ويكون إيمان المؤمن وتصديقه حقًا، فكما قال البجيرمي رحمه الله في طمس نور الحجر والمقام: "وإنما أذهب الله نورهما؛ ليكون إيمان الناس بكونهما إيمانًا بالغيب، ولو لم يطمس لكان الإيمان بهما إيمانًا بالمشاهدة، والإيمان الموجب للثواب هو الإيمان بالغيب".
حجرٌ أبيضٌ ومن شؤم الذنوب اسودّ؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "نزلَ الحجرُ الأسوَدُ منَ الجنَّةِ وَهوَ أشدُّ بياضًا منَ اللَّبنِ فسَوَّدَتهُ خطايا بَني آدمَ"(1)، ولنا أن نعلم مدى شناعة الخطيئة وتأثيرها، فكيف بقلوب البشر؟!

ياقوتةٌ من يواقيت الجنة، شرفٌ عظيمٌ احتضنته بكة، فحُق لها أن تتبـاهى بما اخُتصت به، وحُق للمؤمن أن يسعد بنعيمٍ من الجنة، وأن يستمتع به، وله أن يعلم أن مسحه كفارةٌ للخطايا؛ كما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ مسحَ الرُّكنِ اليمانيَّ، والرُّكنِ الأَسوَدِ يحُطُّ الخطايا حطًّا "(2).
"وقبِّل حجرًا مكرَّمًا نزل من الجنة، وضع فمك لاثمًا مكانًا قبَّله سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فهنأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخر" هذا ما قاله الذهبي رحمة الله عليه في تقبيل الحجر الأسود، وإن في ذلك لشرفٌ عظيمٌ حبانا الله به، فلنا أن نستشعر بقلبٍ مؤمنٍ وموقنٍ حقًا! عن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "واللهِ ليبعثنَّه اللهُ يومَ القيامةِ، له عينانِ يبصرُ بهما، ولسانٌ ينطقُ به، يشهدُ علَى مَنْ استلمَه بحقٍّ"(3).

قال المؤرخ محمد طاهر الكردي "والذي يظهر من الحجر الأسود في زماننا - منتصف القرن الرابع عشر الهجري – ونستلم ونقبِّله ثماني قطع صغار مختلفة الحجم، أكبرها بقدر التمرة الواحدة، كانت قد تساقطت منه حين الاعتداءات عليه من بعد الجهَّال والمعتدين في الأزمان السابقة"، فقد حفظه الله برغم الحوادث التي أثرت به، ومن أشهرها حادثة القرامطة الذين أسرفوا ببيت الله الحرام، وعاثوا فيه فسادًا، وسرقوا الحجر الأسود بضعًا وعشرين سنة، وخابوا كما خاب أبرهة من قبلهم.

هل نحن مستشعرون لعظمته؟ قد يُسرد على مسامعنا، وقد تجول أنظارنا بأسطرٍ حوت كل ذلك، وقد نعلم كثيرًا، ولكن هل نعي؟ هل ندرك أنه سيرجع من حيث أتى يومًا ما؟ كما قال صلى الله عليه وسلم: "نزل جبريلُ - عليه السلام - بالحَجَر من الجنة، فوَضَعه حيث رأيتم، وإنكم لن تزالوا بخير ما بقي بين ظهرانيكم، فاستمتعوا منه ما استطعتم، فإنه يوشك أنْ يَجِيءَ فيرجع به مِنْ حيث جاء"(4)، فطوبى لمن استلمه بقلبٍ صادق، وأدركه قبل رُجوعِه.

  1. رواه الترمذي (3/226)، ح(877)، وقال: "حسن صحيح"؛ وابن خزيمة في "صحيحه" (4/219)، ح(2797)؛ وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (1/451)، ح(877)
  2. رواه عبد بن حميد في "مسند" ص(263)؛ والترمذي عبد بن حميد في "مسند" ص(263)؛ والترمذي (3/292)، ح(959)؛ وأبو يعلى في "مسنده" (10/52)، ح(5687)، والحاكم في "المستدرك" (1/664)، ح(1799)، وقال: "حديث صحيح، ولم يخرجاه"؛ والمنذري في "الترغيب والترهيب" (122/2)، ح(1756)؛ وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (1/491)، ح(959).
  3. رواه الترمذي (3/294)، ح(961) وحسنه؛ والمنذري في " الترغيب والترهيب" (2/124)، ح(1767)؛ وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (1/493)، ح(961).
  4. رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (1/63، 64)، رقم (325)؛ والفاكهي في "أخبار مكة" (1/91)، رقم (25) واللفظ له، وإسناده حسن.

المراجــع:
- الدوسري، محمود أحمد (1434)، الطبعة الأولى. الكعبة المشرفة. الدمام: دار ابن الجوزي.
- بكداش، سائد (1416)، الطبعة الأولى. فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام. بيروت: دار البشائر الإسلامية.

أريج شامي السيد عضوة الفريق الرقمي بالقسم النسائي "هاجر"
إغلاق النموذج

رأيك يهمنا