من أنت؟ ولمن تنتمي؟ وما هي خريطتُكَ في هذا العالمِ وكيف تشكّلت؟ ما لون الدماء التي صُبَّتْ في عروقك حتى كوّنتَ هذه الهوية
من المعتقدات والانتماءات، وما هو التاريخ التليد الذي تفخرُ أنّكَ لهُ تَبَع، والنّسب المجيد الذي أنت منهُ فرع؟
من هم الذين تطربُ عند سماعِ سيرِهِم، وتجد في قلبك موضعًا يعتنقُ ما رُويَ عنهم، ويرفُّ فؤادك شوقًا لهم، وقد عُقدت بينك وبينهم علائقٌ وثيقة فحالت دونكمُ السنين الغابرة، تقلّب صفحات التاريخ، وتجول عيناك في سطورِه تنقب عن عظماءَ تتعطشُ روحك لآثارهم فتستلذ البحث عنهم، كما كان يبحث العرب عن مواطن ماء السماء ليرتووا بما فيه حاجة دنياهم، تبحث أنت عن مناقب قوم لترتوي بما فيه حاجة دنياك وآخرتك، في دائرة الإسلام الواسعة تقف بعزّة وشموخ وأنت ترى كيف أُحكمت شرائعه وتُممت محاسنه، فلا تكاد تنفرج في خلَدكَ فرجةَ شكٍّ إلا باليقين سدها، ولا مواطن خير هفت لها فطرتك إلا وبالدليلِ أقرّها، ولا طرائقَ شرٍّ إلا وبالبيان أبطلها، وتلحظ في نفسك وجيدة ملحّة بالتعرف على من منحهم الله رفع راية دينه والدعوة إليه؛ لتقتدي بهم وتستنير في زمن الظلام بأنوارِهم

ليتجلى لك أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- وقد جمع ما يتفرق من الخير بين أمة كاملة، فكان أمةً بمفرده، وإمامًا للخلائق بتوحيده
خلّد الله سيرته في القرآن الكريم في أكثر من ستين موضعًا، حارب الشرك في شبابه واشتد ساعده في إزالة مظاهره، واعتزل عشيرته وأهله وأباه دفاعًا عن حمى التوحيد ومضيًّا في سبيل الدعوة إليه، حتى تزوج سارة -عليها السلام- وصار في عمرٍ يرجو فيه الولد
يعينه في آخر سِنه وتقر بصلاحه عينه، فلم يرزقه الله بولد حتى تزوج هاجرَ -عليها السلام- فأتت بإسماعيل -عليه السلام- ثم ابتدأت
قصة من فصولٍ هاجريّة آسرة، وتدبيرٍ ربانيٍّ حكيم، يأمر الله عز وجل نبيه إبراهيم أن يهاجر من بلاد مصر إلى الشام ثم إلى مكّة
من نهر النيل الجاري وحدائق فلسطين وأفنانها إلى واد قفرٍ غير ذي زرع خالٍ من كل المغريات الدنيويّة، بل مجدب لا مظاهر للحياة فيه، بزوجته هاجر وطفله الرضيع إسماعيل، في أسمى مشهد للتصديق والتضحية تسير أمّنا هاجر معه يحدوها اليقين ويحث خطاها التسليم، حتى استوطنوا وادي مكة قرب قواعد البيت العتيق فأنزل إبراهيم عليه السلام زوجته وابنه، وجعل معهم جرابّا فيه تمر وسِقاءً فيه ماء، ثم همّ بالرحيل، فتبعته هاجر تسأله وتكرر عليه: أتتركنا في أرض قفر ليس بها إنسٌ وليس بها ماء؟

وإبراهيم -عليه السلام- ماضٍ في طريقه لا يجيبها، حتى فطنت له وقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لن يضيّعنا.
فانطلق إبراهيم حتى بلغ الثنية حيث لا يرونه، ودعا بدعواتٍ لا تزال ثمار إجابتها سحّاء على هذه الأرض وأهلها حتى هذه الساعة.
ثم تبرز هاجر-عليها السلام- من هامة التاريخ أنموذجًا في دائرة الإنسانية والإسلام والعرب التي تحيط بك وتشكّل معالمك
يشتد بها البلاء، ويشَقّ صمتَ المكان صوتُ طفلها الباكي وتردد الجبالُ صداه، الماء ينفد والجوع يطوي الصغير
ولا شيء في المكان يستدعي الأمل، والهواء الحار يطير بالرمال ويحجب البصر، والخواء سيّد المَشهد..

وعلى رغم كل هذا فلم يجد اليأس عند أمنا هاجر موضع قدم، ولم يكن يقينها تواكلًا بل توكّلًا يتطلّب السعي الحثيث مع تمام الثقة بالله وتفويض الأمر له، سعت -عليها السلام- سعي الإنسان المجهود بين جبلين تصعد على أحدهما تنظر منه لما حولها، ثم تهرول للآخر حتى ترقى على أعلاه علها تجد من يغيثها، فعلت ذلك سبع مرات وطفلها يطويه العطش وهي يطويها اليقين بالله ويستحثها الصدق مع الله، وكأن المكان كله بكُلّ ما فيه يترقّبُ معها البُشرى العاجِلة!

حتى جاءَ أمر الله تعالى وشَهِد الكون بأسرِه لَحظةَ تفجّر الماء من بين حِجارة صمّاء، لحظةَ تجلّي الوعد الرّباني، لحظةَ التسليم الجليل لهذه الأُم لربِّ هذه الأرض، فدبّت الحياة في المكان وهفت إليه الأفئدة، وحينما كان البلاء عظيمًا على هاجر، والصبر عتادها والتّسليم دأبها، جاء الجزاء عظيمًا محسوسًا في زمزم، ثم معنويا مطمئنًا ببشرى الملك المرسل لها بعد أن شق ماء زمزم:

لا تخافوا الضياع، إن ههنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله.
ثم مرّ زمانٌ كبر فيه إسماعيل ورأى فيه إبراهيم ثمرة فؤاده وقرارة عينه وبكره ووحيده الذي كبر بعيدًا عن أحضانه، فيأمره الله ابتلاءً له أن يذبحه، لا أن يرميه من شاهق أو يأمر من يقتله أو ينفيه أو يبعده بعد أن التم شمله به، بل يباشر ذبحه بيديه، فسأل إبراهيم ابنه كيف ترى هذا الأمر؟ يرد إسماعيل بذات التسليم الهاجري ويقول: "افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله صابرا"، يتكرر المشهد والتسليم لأمر الله والتوكل عليه حين عبّر بقوله: "إن شاء الله"، والصبر في سبيل الله فرعًا عن أصل "ذرية بعضها من بعض" لنعلم معنى أن تصنع الأم أمّة، وأن ما تزرعه الأم يورق طال الأمد أو قصر، إسماعيل عليه السلام أبو العرب من المدرسة الهاجرية التي سطرت معنى التسليم لله والانقياد لأمره والاستجابة الخالصة لتدبيره حتى ساقهم الله أسبابًا يكون بهم إعمار بيته تهيئةً لأن يبعث خير الرسل صلى الله عليه وسلم. فكان لهاجر السبق في تكوين الصورة السامية لنساء المسلمين في تسليمها لأوامر الله وصبرها في سبيله وتربية ابنها على هذا المنهج، ولها السبق في رحاب مكة وأروقة الحرم فكانت أول من شرب من زمزم، وأول من سكن الحرم، وأول من سعى بين الصفا والمروة، ومن حبرت أقلام الصحابة نقلًا للأمة الإسلامية في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فذلك سعي الناس بينهما". جميع المسلمين يقتفون سعي هاجر، السعي الذي جعله الله شعيرة يعمل بها إلى قيام الساعة، وقال عنها أبو هريرة رضي الله عنه: "تلك أمكم يا بني ماء السماء"، أي أمُّ العرب؛ لأنهم كانوا يتتبّعون مواقع ماء السماء لُقِّبوا بذلك. فلْتهنأ بهذه الانتماءات التي تحيط بك ولتنظر لروادها، ورموزها ولتعقد العزم للبذل على خطى أمك هاجر عليها السلام، فمن حيزت لها أسبقية سكنى الحرم وخلّدت مآثرَ تجتبى، وشعائرَ تُرى، حقيقُ أن تُجلّى سيرتها لتُقتدى، وتشيّد مدرستها لكل من سعى.

بتول عياض السلمي عضوة الفريق الرقمي بالقسم النسائي "هاجر "

مع ولادة التاريخ الهجري، وقف النبي صلى الله عليه وسلم على أطراف مكة، ينظر إلى موطنه الذي أقل خطواته الأولى، الأرض التي رسمت بين شعابها معالم دعوته، ومهبط رسالته، والغار الذي كان يأوي إليه ليتفكر في آلاء المنان بعيدًا عن عبدة الأوثان، ينظر بنظرات الحسرة إلى الأرض التي ارتكزت الكعبة المشرفة قلبًا لها، التي يفيء إلى ظلها ليلتصق جبينه دونها متصلا بالله تعالى متجاهلا السباب والأذى من قومه، ثلاث عشرة سنة من الدعوة المكية يطويها بقلب متفطر ويقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"
تطوى السنوات ليأتي العام الثامن من الهجرة ويحبس التاريخ أنفاسه في مشهد يجلي من ضروب النصر أسماها ومن معاني الفرحة أجلها وأنداها، بعد أن أخرج منها صلى الله عليه وسلم مطاردًا متخفيًا يخشى القتل، يعود بتأييد العزيز العظيم، وفتح الحكيم الكريم، لتقر عيناه بموطنه وأحب أرض إلى الله، ويهنأ بنعمة الله التي لم تأتِ فرادى، بل صاحبها النصر والفتح والأمن، وضم مكة كلها إلى الدولة الإسلامية، ليدخل إلى المسجد الحرام في موكب عظيم مستشعرًا فضل الله، خاشعًا منحنيًا على راحلته، معلنًا شكره لله وافتقاره إليه، ابتعد صلى الله عليه وسلم عن البيت العتيق لسنوات ثم دخله مكرّمًا يرفل في النعماء، وقد تبدلت سنين الصبر إلى أنعم مشهودة ومكارم محمودة.
وها نحن اليوم زمرة من أمته، بقلوب تقفو خطاه، وأرواح تهتدي بهديه، تعصف بنا الدنيا وتموج بنا الفتن، تضيق بنا كل الأراضي لنأتي إلى الكعبة المشرفة فتتسع أرواحنا بالزحام حولها، وفي السعي بين الصفا والمروة تطمئن، وتروى بماء زمزم، تضطرب قلوبنا في الدروب لتهدأ خلف المقام، وتتفطر أفئدتنا لأمنية فتجاب في دعوة عند الحجر الأسود، لم تهدأ حركة الطواف لا ليلًا ولا نهارًا ولا صيفًا ولا شتاء، يعتكف المئات داخل أروقة المسجد، وآلاف المشاهد تأسر الفؤاد لركعٍ أو ساجد أو داع، وقد أمنت أرواحنا وضمنت الجوار، نمر دون المسجد الحرام في اليوم عدة مرّات ولا يفصلنا من الولوج إليه إلا مشيئة الله ثم رغبتنا في ذلك، حتى شاء الله أن يبتلينا بالبعد عنه فغزا الوباء العالم، وأغلقت أبواب المسجد الحرام على إثره لتدابيرٍ وقائيّة، سبعة أشهر لكنّها في ميزان المشتاقين أعوامٌ من الحرمان، يترقّبون على جمرِ الانتظار، ويتحيّنون البشائر والأخبار، هم أولاء الذين جاوروا مكة أو من استطاعوا أن يأتوا إليها ويسرت لهم الأسباب، فكيف بمن تعسّر السبيل بهم وحالت الظروف دونهم فلم يروا الكعبة قط ..

"وما صبابةُ مشتاقٍ على أملٍ.. من اللقاءِ كمشتاقٍ بلا أملِ"

على أملٍ مرّت هذه الأشهر لتشعل الشوق في قلوبنا، لتنهض العزم في أرواحنا، إذ استشعرنا حرارة الفقد وازدادت رغبة الوصال، سبعة أشهر ما قبّل الحجر الأسود أحد، ولا اكتظ المطاف بالعمّار، ولا انتعشت أروقة الحرم بركض الأطفال، ولا رددت أركانه تلاوات الحفّاظِ في الحلقات، سبعة أشهر وأرض الحرم الباردة ما لامستها أقدام الساعين الدافئة، وأدمع الذاكرين التائقة، إلا من ثلة حجاج اختصهم الله برحمته في مشهد مهيب.

على أملٍ اصطفّ ركب العمّار الأوّل بالبُشرى مع مطلع فجرٍ يشبه يوم العيد في بهائه وجلاله ولسان حالهم:
"قد يهون العمر إلا ساعةً..وتضيقُ الأرضُ إلا موضعا"
أبواب المسجد الحرام وحمائمُه ومآذنه وأرضه لو نطقت لرحّبت بضيوف الرحمن، والكون كله يشهد ملامح الإياب والبِشر في وجوههم، في فرحة غامرة تأخذ بأصحابها في عالمٍ من نُور وحبور، وشكر لربٍّ كريمٍ غفور
نعودُ خاشعين في تذلل لله وافتقارٍ لفضله ورحمته، يملؤنا التعظيم لجلاله وآلائه
لينعم علينا باستشعارٍ أكبرٍ للنعمة وتذكّرٍ للفضل والمنّة، فالحمدلله ما سار لبيته الملبّون
والحمدلله ما طاف حول كعبته الطائفون، سهّل الله للمشتاقِ سبيله، وتقبّل من المعتمرِ سعيه، وأجزل الأجر والثواب لكل من سخره الله لخدمة بيته، وأدام على المطافِ أصوات الداعين وخطى الشاكرين، وأوزعنا شكر نعمه واستذكارها بما يرضى به عنَّا، وأدام مكّة معلمًا للأمنِ والسكينة، وموطنًا للإيمانِ والطمأنينة.

بتول عياض السلمي عضوة الفريق الرقمي بالقسم النسائي "هاجر "